كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الفرع الأول: أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافًا لمن شذ وقال: لا قصر إلا في حج أو عمرة، ومن قال: لا قصر إلا في خوف، ومن قال: لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم، واختلف العلماء في الإتمام في السفر، هل يجوز أو لا؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب.
وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة- رحمه الله- وهو قول علي، وعمر، وابن عمر، ويروى عن ابن عباس وجابر، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال: وقال حماد بن أبي سليمان: يعيد من صلى في السفر اربعًا اه. منه بواسطة نقل الشوكاني- رحمه الله- وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة، وابن عباس، وعمر- رضي الله عنهم- بأن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، ودليل هؤلاء واضح، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر، كما يجوز الصوم والإفطار، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل؟ وبهذا قال عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة رضي الله عنهم.
قال النووي في شرح المهذب: وحكاه العبدري عن هؤلاء- يعني من ذكرنا- وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود، وهو مذهب أكثر العلماء ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة. وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة، واحتج أهل هذا القول بأمور.
الأول: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] الآية. لأن التعبير يرفع الجناح دليل لعدم اللزوم.
الأمر الثاني: هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: في القصر في السفر «صدقة تصدق الله بها عليكم» الحديث- فكونه صدقة وتخفيفًا يدل على عدم اللزوم.
الأمر الثالث: هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة- رضي الله عنها- أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر هو صلى الله عليه وسلم وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة، فأخبرته بذلك، فقال لها: «أحسنت».
قال النووي في شرح المهذب: هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد حسن أو صحيح، قال: وقال البيهقي في السنن الكبرى.
قال الدارقطني إسناده حسن، وقال في معرفة السنن والآثار هو إسناد صحيح. قال مقيده- عفا الله عنه- الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح.
لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط. لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر:
الأولى: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام عام ست.
الثانية: عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية، وهي عام سبع.
الثالثة: عمرة الجعرانة بعد فتح مكة عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة.
الرابعة: عمرته مع حجه في حجة الوداع، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي. قال حدثنا أبو نعيم. قال: حدثنا العلاء بن زهير الأزدي. قال: حدثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة «أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله: بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت. قال: أحسنت يا عائشة، وما عاب علي». اهـ.
الأمر الرابع: ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم».
قال النووي في شرح المهذب: رواه الدارقطني، والبيهقي وغيرهما.
قال البيهقي: قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في التلخيص بلفظ يقصر بالياء، وفاعله ضمير النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتتم بتاءين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا علي بن عمر الحافظ حدثنا المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم. قال علي: هذا إسناد صحيح اه.
قال البيهقي: وله شاهد من حديث دلهم بن صالح، والمغيرة بن زياد، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف.
الخامس: إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ولو كان القصر واجبًا حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام.
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي: لمن اراد ذلك، وعن قول عمر في الحديث: «تمام غير قصر» بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا: إن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] في صلاة الخوف كما قدمنا فلا دليل فيه لقصر الرباعية قالوا: ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]. لأن السعي فرض عند الجمهور وعن قوله في الحديث: «صدقة تصدق الله بها عليكم» بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبولها في قوله: «فاقبلوا صدقته» والأمر يقتضي الوجوب فليس لناعدم قبولها مع قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوها»، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منهما، واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان، فلو كان عندها في ذلك رواية من النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقل عنها عروة أنها تأولت.
وقال العلامة ابن القيم- رحمه الله- في زاد المعاد ما نصه: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النَّبي صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك، فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال: تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم، فإنها أتمت كما أتمّ عثمان، وكلاهما تأول تأويلًا. والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم اه. محل الغرض منه بلفظه.
قال مقيده- عفا الله عنه-: أما استبعاد مخالفة عائشة- رضي الله عنها- للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ولا شك أن المنعمن مخالفته في حياته باق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فلا يحل لأحد ألبتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة: فعلًا كان أو قولًا أو تقريرًا، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدى الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم شيئًا في ذلك، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك والمثبت مقدم على النافي فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم.
والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي. وقال فيه: إنه يروي عن الثقاة ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في التقريب وغيره، وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمن بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها.
قال الدارقطني: وعبد الرحمن أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق، وذكر الطحاوي عن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه، وذكر صاحب الكمال أنه سمع منها، وذكر البخاري في تاريخه وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب. لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة وبعضهم يقول عن عبد الرحمن عن عائشة مردود ايضًا، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة.
قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين: قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة، ومن قال عن ابيه في هذا الحديث فقد أخطأ اه.
فالظاهر ثبوت هذ الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنة، وأن من اتم أعاد في الوقت. لأن الثابت أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام. للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
الفرع الثاني: اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة. فقال مالك والشافعي وأحمد: هي أربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرًا معتدلًا، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى رِيم فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وذلك نحو من اربعة برد اه. وريم موضع. قال بعض شعراء المدينة:
فكم من حرة بين المنقى ** إلى أحد إلى جنبات ريم

وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك.
قال مالك: وبين ذات النصب والمدينة اربعة برد، وبما قال مالك: إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة.
قال مالك: وذلك اربعة برد وذلك احب ماتقصر فيه الصلاة غلي، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة كل هذه الآثار المذكورة في الموطأ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما.
وقال البخاري- رحمه الله- في صحيحه: وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخًا اه. وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور نقله عنهم النووي، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام، وممن قال به أبو حنيفة، وهو قول عبد الله بن مسعود وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والحسن بن صالح، والثوري وعن أبي حنيفة أيضًا يومان وأكثر الثالث، واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافر المراة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم» وبحديث: «مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن»، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة ايام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام. لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته. لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه اه.